وصايا الدكتور طلال أبوغزاله العشرين للشباب
12 تموز 2025
أفينيون، فرنسا - حين تعتلي اللغة العربية خشبة مهرجان أفينيون، فإنها لا تتحدث فحسب، بل تُنصت وتُنصِت. تفتح ذراعيها للضوء، وتفتح دفاترها للريح، وتخاطب العالم بصفاتها الأولى: الشفافية، العمق، والقدرة الهائلة على احتواء التعدد والتبايُن. ليست ضيفة استثنائية في هذا المهرجان الثقافي الأشهر فحسب، بل هي الحضور ذاته، والمشهد الذي يحتوي الأضداد ويمنحها تناغُمًا. اللغة العربية، التي كانت دومًا أداة بناء للمعنى، تدخل اليوم إلى قلب المسرح العالمي، لا لتعرض تراثها فقط، بل لتتمثّل حاضرها وتبني صورتها القادمة بوصفها لغة فنٍّ ومعرفة وتنوّع حضاري.
مشاركة مركز أبوظبي للغة العربية، بالشراكة مع معهد العالم العربي في باريس، في مهرجان أفينيون الدولي، لا تنبع من مجرد رؤية ثقافية، بل من قناعة راسخة بأن اللغة العربية اليوم تقف على عتبة جديدة من حضورها العالمي، حضور يتجاوز الحنين إلى الماضي أو استعادة الأمجاد، إلى ممارسة فعل المثاقَفة في ميدانه الأكثر تعقيدًا: المسرح. فهذا الفن، الذي طالما كان مرآة للقلق الإنساني والبحث عن المعنى، وجد في العربية نافذةً للبوح، وجسرًا للاتصال، ومساحة لتبادل الرؤى.
اللغة ليست مجرد أصوات، بل كينونة. وحين نؤمن بأن اللغة العربية قادرة على أن تعبّر عن الأمل الإنساني، فإننا نمنحها مفاتيح المستقبل. لم تعُد العربية لغةً تنحصر في الجغرافيا، بل تجاوَزَت حدودها القديمة لتخاطب الآخر بلُغَته الشعورية لا الحرفية، وتدخل إلى قلبه لا من بوّابة الترجمة، بل من بوابة الفن. وما مهرجان أفينيون إلا أحد هذه المفاتيح، الذي يتيح للغة العربية أن تتفاعل مع لغات الأرض الأخرى، من موقع الندية والثراء، لا التلقي والانغلاق.
أن تكون العربية ضيف شرف في هذا المحفل، يعني أن العالم يعترف بها لغةً حيةً، نابضة، قادرة على التجدد، وعلى خلق خطاب يتجاوز الصور النمطية، ويعيد رسم العلاقة مع الآخر على أُسُس من الفهم والمشاركة والجمال. وهذا ما نؤمن به في مركز أبوظبي للغة العربية، وهو ما نكرّسه عبر برامجنا ومبادراتنا: تعزيز الحضور الدولي للعربية، ليس فقط في الكتب والقواميس، بل في الفن والمسرح والموسيقى والرقص، في الحياة اليومية، حيث تتكلّم اللغات بأجسادها وإيقاعاتها ونبضها، لا فقط بأبجدياتها.
لذلك، فإن الشراكة مع معهد العالم العربي، بقيادة السيد جاك لانغ، تمثّل ركيزة أساسية في هذه المهمة. فثمة إيمان مشترك بأن العربية لا تزال تملك الكثير لتقوله للعالم، لا باعتبارها فقط أداة للتواصل، بل بوصفها وعاءً للخيال، ومخزنًا للذاكرة، ونافذة على تجارب إنسانية غنية ومتشعبة. لقد أثبت هذا التعاون كيف يمكن للرؤية الثقافية الإماراتية، بدعم كبير من القيادة في الدولة، أن تسهم في إعادة موضعة اللغة العربية ضمن خريطة التأثير العالمي، بوصفها ركنًا من أركان الثقافة الإنسانية، ومصدرًا حيًّا للإبداع والفكر.
وحين تُقام في مهرجان أفينيون أمسية لأم كلثوم، وتُستعاد قصائد عربية بصوت موسيقيٍّ معاصر، أو حين تتألق عروض الشعر والرقص، فإن الأمر يتجاوز فعل التمثيل، ليغدو نوعًا من الاعتراف الجماعي بأن اللغة العربية ليست ملكًا لمتحدّثيها فحسب، بل هي ملك لكلّ مَن يسكنه الإحساس بالجمال والدهشة. إن هذا الثراء في الفعاليات لا يُجمّل وجه العربية فقط، بل يكشف عن طاقتها على إنتاج المعنى في زمن مضطرب، وعلى خلق لحظة إنسانية وسط صخب العزلات والانقسامات.
منذ تأسيس مركز أبوظبي للغة العربية، لم يكن طموحنا مجرد الدفاع عن اللغة، بل أن نمنحها ما تستحقه من فضاءات، أن نُطلِقها في الأفق، أن نعيد وَصْلها بالخيال العالمي، وأن نجعل منها لغةَ حضور لا غياب، تفاعُل لا انكفاء. واليوم، في أفينيون، نرى ثمار هذه الرؤية تتجلّى في أعين الجمهور، في تصفيقاتهم، في انبهارهم بجمالٍ لا يشبه ما اعتادوه من تمثيلات جاهزة.
وحين أتابع هذا الاحتفاء بالعربية في مهرجان أفينيون، لا يسعني إلا أن أستحضر علاقتي الأولى بهذه اللغة، لا بوصفها موضوعًا أكاديميًّا أو مسؤولية ثقافية، بل باعتبارها الكائن الذي شكّل وجداني، وسكن مُخيّلتي، وكان وسيظل وسيلتي لفهم العالم. لقد تعلّمتُ أن اللغة الحيّة لا تكفيها المعاجم، بل تحتاج إلى أن تحيا في العيون والآذان والقلوب، في تفاصيل الحياة اليومية، وفي أرقى أشكال التعبير الفني. وما أراه اليوم من تفاعُل الجمهور مع العربية، في الشّعر والمسرح والموسيقى، إنما هو شاهد على أن هذه اللغة لا تزال قادرة على أن تكون بيتًا للمعنى، وأفقًا للخيال، وجسرًا بين ما هو شخصي وما هو إنساني مشترك.
إن الحضور العربي هنا ليس حضورًا طارئًا أو عرضيًّا، بل هو امتداد لحضور حضاري ممتد في الذاكرة الغربية ذاتها، حضور ينطوي على احترام متبادل، وعلى رغبة في معرفة الآخر لا اختزاله. ومن هنا فإن اختيار اللغة العربية ضيفَ شرف، لا ينبغي أن يُقرأ فقط بوصفه إنجازًا ثقافيًّا، بل بوصفه مسؤولية مضاعفة. علينا أن نتابع، أن نواصل العمل، أن نمنح العربية كل المساحات التي تستحقها؛ لأنها لم تكن يومًا مجرد لغة، بل كانت دائمًا طريقًا لفهم الإنسان، وسبيلًا لرؤية العالم بشكل أعمق وأكثر انفتاحا.
الدكتور علي بن تميم