الرئيسية

باريس تناقش آفاق العربية... أول لغة تُدرّس في فرنسا

 

24 تشرين الأول 2024

 

هناك وهم سيطر على بعض المنتسبين إلى الأوساط الثقافية فصاروا يرددون أن اللغة العربية جامدة وعاجزة عن التطور، بينما واقع هذه اللغة في المجتمعات العربية يقول غير ذلك.

فالعربية، مثلها مثل الكثير من اللغات واسعة الانتشار، تتطور بالتزامن مع حركة المجتمع الذي يستخدمها باعتبارها وسيلة التواصل الأولى بين ناسه.

فقارئ النصوص الشعرية التي كُتبت قبل خمسة عشر قرنا سيجد أن الكثير من مفرداتها لم يعد العرب يتداولونها حاليا، كما أن القول بارتباط الجمود اللغوي بانتشار الخطاب الديني المتمثل في نص القرآن لا ينتبه إلى أن الكثير من مفردات القرآن صار لزاما على العرب والمسلمين المعاصرين البحث عنها في قواميس اللغة إذا أرادوا معرفة معناها. فالمجتمعات العربية في معظمها لم تعد، على سبيل المثل، تستخدم مفردات قديمة مثل "الصراط"، "القيوم"، "العهن"، "المفلحين"، "المطففين"، "دثريني"؛ أو تستعيد عبارات مثل "قسمة ضيزى"، "لا ريب"، "ثكلتك أمّك"، "عمت صباحا" و"حسبك".

تميز العربية

لم تكن اللغة العربية مغلقة في إطارها المكاني أو الزماني، وقد احتوت على مفردات عدة منها ما هو مشترك مع لغات أخرى أو بتأثير من مجتمعات هذه اللغات، فعرفنا فيها ما يتطابق أو يتشابه مع السريانية والعبرية واللاتينية والفارسية والتركية والهندية وغيرها، وكانت بعض المفردات تنسب إلى بيئتها الخاصة. مثل ما جاء في التفسير اللغوي، عند ابن منظور في "لسان العرب"، للعبارة القرآنية "إني أراني أعصر خمرا" إذ قال إن الخمر هنا هي العنب وإنها "لغة يمانية"، أي جنوبية.

وشهدت القواميس والمعاجم العربية تطورا ملحوظا، فقاموس "العين" يختلف عن "لسان العرب"، وكان "تاج العروس" امتدادا لكل ما سبقه، كما أن "المنجد" في صيغته الحديثة شكّل نقلة مهمة في التبويب على غرار القواميس المعاصرة، قبل أن تجمع مواقع إلكترونية على الإنترنت كل ما ورد من قواميس لغوية، إضافة إلى قواميس أنشئت حديثا في الشارقة والدوحة.

وقد سألت الباحث اليمني مصطفى ناجي الجبزي إذا ما كانت هناك مسببات لغوية لهذه النظرة الدونية عند البعض للغة العربية، فرأى على عكس ما يراه هؤلاء وقال إن: "نظام الكتابة في اللغة العربية استقر منذ زمن طويل واتسم بالثبات حاملا خصائص متفردة عن غيره يدركها من تعلم لغات أخرى كالفرنسية والإنكليزية، على الأقل بالنسبة إليّ كوني أتحدث بهما إلى جانب العربية".

وأشار إلى أن من خصائص هذا النظام التلازم الصوتي بين الصائت والساكن مع إمكان اختزال الصائت فيعطي طريقة رسم اقتصادية. وبما أن اللغة منطوقة فإن إدراك الرسم يكون بالتواضع على لفظها في الأساس.

ثم أن قواعد الإملاء معلومة ومحصورة بقليل من الدرس يدرك بسيطها وشاذها. بينما يختلف الأمر في اللغات الأخرى، حيث ينبغي حفظ الشكل لتعدّد رسم الصوت الواحد. وهناك مثل يُقدّم بالفرنسية على سبيل الطرافة، وهو أن نظام الكتابة بالفرنسية من التعقيد بمكان إلى درجة أنه يمكن كتابة كلمة مستحدثة هي 'كرييفيسيون' التي قد تكتب هكذا creffession أو صوتيا krefesjɔ̃ بـ240 طريقة وفق النظام الصوتي وقواعد الإملاء بالفرنسية. ما ينطبق على اللغة الفرنسية قابل للتطبيق على لغات أوروبيّة لاتينية أو جرمانية أيضا".

أول لغة في فرنسا

في كل مراحل تطور اللغة العربية احتلت مكانة مهمة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل وغير الإسلامية، وقد أشار طارق أبو الجمال في ندوة أقيمت في معهد العالم العربي في باريس إلى أن الملك فرنسوا الأول أقرّ في عام 1538 تدريس اللغة العربية في فرنسا قبل أن تُدرَّس اللغة الفرنسية، وفي العام الذي يليه اعتمد الفرنسية كلغة رسمية. وقال جاك لانغ إنه "من دون اللغة العربية لم نكن لنتعرف إلى عدد من الفلاسفة الإغريقيين، ولم تكن بعض العلوم والرياضيات لتصلنا ولما تعرفنا إلى كتاب ألف ليلة وليلة".

وكما قال عبدالله الوشمي، أمين مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، في الندوة نفسها، هي لغة وصلت إلى الأندلس والهند عبر خطوط قصر الحمراء وقصر تاج محل. فيما رأى الشاعر شوقي عبد الأمير، المدير العام للمعهد أن اللغة العربية هي "الحضن الأكبر والمكان الحامي والخندق الذي ندافع فيه عن وجودنا" وأنها تجمع العرب بكل طوائفهم وأصولهم، حيث تغيب الاختلافات وتذوب الاتجاهات.

مع هذا يشير طارق أبو الجمال إلى بعض الإشكاليات التي تواجه انتشار اللغة العربية، ففي فرنسا مثلا، تعتبر العربية اللغة الثانية في المجتمع بعد الفرنسية، إلا أن تدريسها يحتل المستوى السابع في المؤسسات التعليمية، وينظر إليها في صورة نمطية من زاوية ارتباطها بفئة مهمّشة تسكن أحياء محددة، وعادة ما يتم الحديث عن ضرورة فصل الإسلام عن تدريس اللغة العربية، إذ يعتبرها البعض لغة خطرة ويحذّر بعض الأحزاب من تدريسها.

اهتمام وتطوير

وفي ندوات عُقدت مؤخرا في معهد العالم العربي بباريس وشارك فيها باحثون، في ساعات متوازية، من مجمع الملك سلمان للغة العربية ومركز أبوظبي للغة العربية، تعرّفنا إلى جهد ثلاث مؤسسات مهتمة في مجال نشر اللغة العربية وإحيائها وتطوير أدوات التعامل معها إلكترونيا. أولاها مركز اللغة العربية في معهد العالم العربي بباريس الذي يعمل على تدريس العربية لكل الأعمار ويقوم باختبار ومنح شهادة "سِمة" للراغبين بها والتي تعد بمثابة "التوفيل" في اللغة العربية، إضافة إلى نشاط المعهد في مكتبته العربية.

وعُرضت في ورقة لسعد القحطاني مهام وأعمال مركز الملك سلمان للغة العربية ومنها دراساته اللغوية وإقامة الندوات والنشر الإلكتروني، حيث ركز على إثراء المحتوى العربي الإلكتروني فأنشأ قواميس لغوية إلكترونية وبرامج مساعدة استشارية. وصمّم تطبيق اختبار "همزة" للراغبين في الحصول على شهادة لغوية. إضافة إلى الإسهام في تدريس اللغة العربية وبالذات للناطقين بغيرها.

أمّا عن مهام ونشاط مركز أبو ظبي للغة العربية فقد تحدث رئيسه الدكتور علي بن تميم عن دور دولة الإمارات العربية المتحدة في تشجيع نشر وتحديث وسائل اللغة العربية. ونوه بشكل خاص بمجمع اللغة العربية في الشارقة وإنجازه للمعجم التاريخي للغة العربية الذي عُني بتاريخ الألفاظ العربية ومعانيها وتطور دلالتها وتطور المصطلحات عبر العصور وذلك في 127 مجلدا، وإنشاء جائزة محمد بن راشد للغة العربية.

وقال إن المركز أنجز موسوعة الشعر العربي الإلكترونية التي ضمّت 3090 ديوانا، وموسوعة المعاني القاموسية. وعمل على العديد من المناشط المتعلقة باللغة، مثل المسابقات المشجّعة على القراءة والإبداع وإقامة الاحتفالات ونشر الكتب ومراجعة المنهج التعليمي اللغوي، إلى جانب مشروع "كلمة" الذي قال إنه يعد أهم مشروع للترجمة إلى اللغة العربية، حيث ترجم من 23 لغة أكثر من 1500 كتاب.

ويرى بن تميم أنه "لولا اللغة العربية واشتقاقاتها وحضارتها وإرثها النابض بالحياة لما استطعنا التواصل مع الآخرين".

 

المصدر